فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: { ثَانِيَ عِطْفِهِ} فيه وجهان:
أحدهما: لاَوِي عنقه إعراضًا عن الله ورسوله، وهذا قول مجاهد، وقتادة.
الثاني: معناه لاَوِي عنقه كِبْرا عن الإِجابة، وهذا قول ابن عباس.
قال المفضل: والعِطف الجانب، ومنه قولهم فلان ينظر في أعطافه أي في جوانبه. قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحارث.
{لِيضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فيه وجهان:
أحدهما: تكذيبه للرسول وإعراضه عن أقواله.
والثاني: فإذا أراد أحد من قومه الدخول في الإسلام أحضره وأقامه وشرط له وعاتبه وقال: هذا خير لك مما يدعوك إليه محمد، حكاه الضحاك. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى كون ما تقدم ذكر فـ: {ذلك} ابتداء، وخبره {بأن} أي هو {بأن الله} تعالى: {حق} محيي قادر وقوله: {وأن الساعة آتية} ليس بسبب لما ذكر لَكِن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض أو على تقدير: والأمر أن الساعة، وقوله تعالى: {ومن الناس} الآية، الإشارة بقوله: {ومن الناس} إلى القوم المتقدم ذكرهم، وحكى النقاش عن محمد بن كعب أنه قال نزلت الآية في الأخنس بن شريق وكرر هذه على جهة التوبيخ فكأنه يقول فهذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان {ومن الناس} مع ذلك {من يجادل} فكأن الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي ها هنا مكررة للتوبيخ، و{ثاني} حال من ضمير في {يجادل} ولا يجوز أن تكون من {من} لأنها ابتداء والابتداء إنما عمله الرفع لا النصب وإضافة {ثاني} غير معتد بها لأنها في معنى الانفصال إذ تقديرها ثانيًّا عطفه، وقوله: {ثاني عطفه} عبارة عن المتكبر المعرض قاله ابن عباس وغيره، ع: وذلك أن صاحب الكبر يرد وجهه عما يتكبر عنه فهو يرد وجهه يصعر خده ويولي صفحته ويلوي عنقه ويثني عطفه وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف الجانب وقرأ الحسن {عَطفه} بفتح العين والعطف السيف لأن صاحبه يتعطفه أي يصله بجنبه، وقرأ الجمهور: {لُيضل} بضم الياء، وقرأ مجاهد وأهل مكة بفتح الياء، وكذلك قرأ أبو عمرو، والخزي الذي توعد به النضر بن الحارث في أسره يوم بدر وقتله بالصفراء، والحريق طبقة من طبقات جهنم، وقوله تعالى: {ذلك بما قدمت يداك} بمعنى قال له ونسب التقديم إلى اليدين إذ هما آلتا الاكتساب واختلف في الوقف على قوله: {يداك} فقيل لا يجوز لأن التقدير: وبأن الله أي {وأن الله} هو العدل فيك بجرائمك وقيل يجوز بمعنى والأمر أن الله تعالى: {ليس بظلام} والعبيد هنا ذكروا في معنى مكسنتهم وقلة قدرتهم فلذلك جاءت هذه الصيغة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ذلك}.
قال الزجاج: المعنى: الأمر ذلك كما وصف لكم، والأجود أن يكون موضع ذلك رفعًا، ويجوز أن يكون نصبًا على معنى: فعل الله ذلك بأنه هو الحق.
قوله تعالى: {وأن الساعة} أي: ولتعلموا أن الساعة {آتية}.
قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل} قد سبق بيانه.
وهذا مما نزل في النضر أيضًا.
والهدى: البيان والبرهان.
قوله تعالى: {ثانيَ عِطفه} العِطف: الجانب.
وعِطفا الرجل: جانباه عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان ويلويه عند إِعراضه عن المشي.
قال الزجاج: ثانيَ منصوب على الحال، ومعناه: التنوين، معناه: ثانيًّا عِطفه.
وجاء في التفسير: أن معناه: لاويًّا عنقه، وهذا يوصف به المتكبِّر، والمعنى: ومن الناس من يجادل بغير علم متكبِّرًا.
قوله تعالى: {ليُضلَّ} أي: ليصير أمره إِلى الضلال، فكأنَّه وإِن لم يقدَّر أنه يضل، فإن أمره يصير إِلى ذلك، {له في الدنيا خزي} وهو ما أصابه يوم بدر، وذلك أنه قُتل.
وما بعد هذا قد سبق تفسيره [يونس: 70] إِلى قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} وفي سبب نزول هذه الآية قولان.
أحدهما: أن ناسًا من العرب كان يأتون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: نحن على دينك، فإن أصابوا معيشةً، ونُتِجَتْ خَيْلُهم، وَوَلَدَتْ نساؤُهم الغلمانَ اطمأنُّوا وقالوا: هذا دينُ حقٍّ، وإِنْ لم يَجْرِ الأمر على ذلك قالوا: هذا دين سوءٍ، فينقلبون عن دينهم، فنزلت هذه الآية، هذا معنى قول ابن عباس، وبه قال الأكثرون.
والثاني: أن رجلًا من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإِسلام، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني، فقال: «إِن الإِسلام لا يقال». فقال: إِني لم أُصِب في ديني هذا خيرًا، أذهب بصري ومالي وولدي، فقال: «يا يهودي: إِن الإِسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب»، فنزلت هذه الآية، رواه عطية عن أبي سعيد الخدري. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وَفْق اقتداره واختياره في قوله: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث إلى قوله بَهِيجٍ}.
قال بعد ذلك: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور}.
فنبّه سبحانه وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودًا حقًّا فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخَّر مصرّف.
والحق الحقيقيّ: هو الموجود المطلق الغنيّ المطلق؛ وأن وجود كلّ ذي وجود عن وجوب وجوده؛ ولهذا قال في آخر السورة: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل} [الحج: 62].
والحق الموجود الثابت الذي لا يتغيّر ولا يزول، وهو الله تعالى.
وقيل: ذو الحق على عباده.
وقيل: الحق بمعنى في أفعاله.
وقال الزجاج: ذلِك في موضع رفع؛ أي الأمر ما وُصف لكم وبُيّن.
{بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي لأن الله هو الحق.
قال: ويجوز أن يكون ذلك نصبًا؛ أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق.
{وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى} أي بأنه {وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه قادر على ما أراد.
{وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ} عطف على قوله: {ذلِك بِأن الله هو الحق} من حيث اللفظ، وليس عطفًا في المعنى؛ إذ لا يقال فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه؛ أي وليعلموا أن الساعة آتية {لاَّ رَيْبَ فِيهَا} أي لا شك.
{وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} يريد للثواب والعقاب.
قوله تعالى: {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أي نيّر بيّن الحجة.
نزلت في النضر بن الحارث.
وقيل: في أبي جهل بن هشام؛ قاله ابن عباس.
والمُعْظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم؛ كما تقول للرجل تذمّه وتوبّخه: أنت فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة؛ فكأنه قال: إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبّع كلّ شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هُدًى وكتاب منير؛ لِيُضل عن سبيل الله.
وهو كقولك: زيد يشتمني وزيد يضربني؛ وهو تكرار مفيد؛ قاله القشيريّ.
وقد قيل: نزلت فيه بضعَ عشرة آية.
فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث، وبالثانية إنكاره النبوّة، وأن القران منزل من جهة الله.
وقد قيل: كان من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جِدال في الله تعالى.
من في موضع رفع بالابتداء.
والخبر في قوله: {ومِنَ الناسِ}.
{ثَانِيَ عِطْفِهِ} نصب على الحال.
ويتأوّل على معنيين: أحدهما: روي عن ابن عباس أنه قال: هو النضر بن الحارث، لَوَى عنقه مَرَحًا وتعظُّمًا.
والمعنى الآخر: وهو قول الفراء أن التقدير: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عِطْفه، أي مُعْرِضًا عن الذّكر؛ ذكره النحاس.
وقال مجاهد وقتادة: لاوِيًّا عنقه كفرًا.
ابن عباس: مُعْرِضًا عما يُدْعَى إليه كفرًا.
والمعنى واحد.
وروى الأوزاعيّ عن مَخْلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} قال: هو صاحب البدعة.
المبرّد: العِطْف ما انثنى من العنق.
وقال المفضّل: والعطف الجانب؛ ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه، أي في جوانبه.
وعِطْفَا الرجل من لَدُنْ رأسه إلى وَرِكَيْه.
وكذلك عِطْفَا كلّ شيء جانباه.
ويقال: ثَنَى فلان عني عِطفه إذا أعرض عنك.
فالمعنى: أي هو معرض عن الحق في جِدَاله ومُوَلٍّ عن النظر في كلامه؛ وهو كقوله تعالى: {ولى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 7].
وقوله تعالى: {لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ} [المنافقون: 5].
وقوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء: 83].
وقوله: {ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} [القيامة: 33].
{لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} أي عن طاعة الله تعالى.
وقرئ {لِيَضِل} بفتح الياء.
واللام لام العاقبة؛ أي يجادل فيضل؛ كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 28] أي فكان لهم كذلك.
ونظيره {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ} [النحل: 54 55].
{لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ} أي هوان وذلّ بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة؛ كما قال: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] الآية.
وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
وقيل: الخزي هاهنا القتل؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث يوم بدر صَبْرًا؛ كما تقدّم في آخر الأنفال.
{وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} أي نار جهنم.
{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت يداك من المعاصي والكفر.
وعبّر باليد عن الجملة؛ لأن اليد التي تفعل وتبطِش للجملة.
و{ذلِك} بمعنى هذا، كما تقدّم في أوّل البقرة. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقوله: {وأن الساعة} إلى آخره توكيد لقوله: {وأنه يحيي الموتى} والظاهر أن قوله: {وأن الساعة آتية} ليس داخلًا في سبب ما تقدم ذكره، فليس معطوفًا على أنه الذي يليه، فيكون على تقدير.
والأمر {أن الساعة} وذلك مبتدأ وبأن الخبر.
وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)}.
الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية قبلها، فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شريق.
وعن ابن عباس في أبي جهل.
وقيل: الأولى في المقلدين وهذه في المقلدين، والجمهور على أنها والتي قبلها في النضر كررت مبالغة في الذم، ولكون كل واحدة اشتملت على زيادة ليست في الأخرى.
وقد قيل فيه: إنه نزلت فيه بضع عشرة آية.
وقال ابن عطية: وكرر هذه على وجه التوبيخ، فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان {ومن الناس} مع ذلك {من يجادل} فكان الواو واو الحال، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي هاهنا مكررة للتوبيخ انتهى.
ولا يتخيل أن الواو في {ومن الناس من يجادل} واو حال، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحًا بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل {في الله بغير علم} متبع لشيطان مريد، ومجادل {بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} إلى آخره، وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي أي {يجادل} بغير واحد من هذه الثلاثة.
وانتصب {ثاني عطفه} على الحال من الضمير المستكن في {يجادل} قال ابن عباس: متكبرًا، ومجاهد: لاويًّا عنقه بقبح، والضحاك: شامخًا بأنفه وابن جريج: مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية {ليَضل} بفتح الياء أي {ليضل} في نفسه والجمهور بضمها أي {ليُضل} غيره، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب، إذ عليه وزر من عمل به.
ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له، وكذلك لما كان معرضًا عن الهدى مقبلًا على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال.
والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة، وقد أسر النضر.
وقيل: يوم بدر بالصفراء.
و{الحريق} قيل طبقة من طباق جهنم، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع.
وقرأ زيد بن علي {فأذيقه} بهمزة المتكلم ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة، وجوزوا في إعراب ذلك هذا ما جوزوا في إعراب ذلك بأن الله هو الحق.
وتقدم المراد في {بما قدمت يداك} أي باجترامك وبعدل الله فيك إذ عصيته، ويحتمل أن يكون وأن الله مقتطعًا ليس ذلك في السبب والتقدير والأمر أن الله.
قال ابن عطية: والعبيد هنا ذكروا في معنى مسكنتهم وقلة قدرتهم، فلذلك جاءت هذه الصيغة انتهى.
وهو يفرق بين العبيد والعباد وقد رددنا عليه تفرقته في أواخر آل عمران في قوله: {وأن الله ليس بظلام للعبيد} وشرحنا هنا قوله: {بظلام}. اهـ.